في الجنوب المشحون بالقسوة والجمال والحضارة ، هناك عشت أكثر من نصف عمري، ومن المشاهدات التي لايمكن انساها ابدا ، ضحكنا المكمور في جنازة أحد رجالات القرية ، لأول مرة اشهد موكب جنازة تتقدمها فرقة عزف موسيقية ، كنا نضحك ونحن نشهد مراسم الحزن الصافي المخبوء في عيون ابناء الراحل وصوت دقات الطبول الصغيرة وعزف ابواق الات النفخ التى لا نعرفها ، تشبه تلك الالات التى تصاحب فرق الاوركسترا ، كنا نضحك لأن ثمة لحن حزين لم يرتبط بطرق بلدنا الترابيه، والغبار الناتج عن وقع سير المشيعين كان يرسم هالة كثيفة تعفر وجوه المشيعين الذين جاءوا من بلدانا مختلفة ، ليحضروا مراسم تشييع الجنازة ، الرجل الذي كان يفتح ابواب دكان بقالته كل صباح هو من قلة نادرة يجيدون القراءة والكتابة، ابنائه كلهم في مناصب مرموقة احدهم كان مستشار مبارك ، ودرس على يده اغلب الاعلاميين والصحفيين المصريين..
أتذكر جيدا حكايات أمي عن جارهم الطيب، عدلى العبد مريم ، وابنه النجيب عاطف عدلى العبد، والذي صار فيما بعد عميد كلية الاعلام جامعة القاهرة
روت لى والدتى ان مدرسة الثانوية العامة كانت تبعد عن قريتنا ظرف الساعتين مشي ، وكانت وسائل المواصلات فى تلك الفترة تكاد تكون نادرة ، فكانت الوسيلة الوحيدة لابناء جيلهم هى ” الحمير” ويجب ان يكون عفى لتحمل مشوار يومي من والى المدرسة ، وعاطف واحد من انبغ ابناء جيله ومن المتفوقين ، الغريب انه كان من اوائل ابناء المركز ويمكن القول من ابناء المحافظة الذين يدرسون الاعلام بجامعة القاهرة ومن ثم يدرسونه ..
اتذكر ان دكتور عاطف حضر تشييع جنازة والده ،وقد تكون زيارته هذه لقريتنا من المرات النادرة ، فقد خطفته القاهرة منا لتصبح سيرته كاحد اعلام قريتنا ، وواحد من هؤلاء الذين فتحوا لي الباب في ان أذهب إلى طريق دراسة الصحافة ، وان تصبح مهنتى ومن بعده ياتى الخال وابن العم الكاتب الصحفي ياسر مشالي الذي سلك نفس الطريق والذي كان يدهشني بمغامراتة الصحفية ، اتذكر احدى تلك المغامرات التى اقدم عليها ياسر مشالى ، بانه اقدم على لبس رداء سجين وبيده كلابشات السجن ومشي فى وسط البلد ولم يوقفه احد ، كان يسير حرا بملابس السجن ورأس محلوق ، وكانت عدسة المصور تتابعة نجح ياسر في ان تكون مغامرته الصحفييه سببا فى وقيع جزاءات على قيادات مباحث العاصمة وقتها ، بفكرة واحدة ومغامرة مدهشة اصابتنى أنا شخصيا بمدى فداحة المشهد الأمني المصري تجاه مايجري فى شوارع القاهرة .
كبرت ومع الوقت ترسخ لدي قناعة ان ثمة شيء ما على فعله فى الزمن القادم ، اخترت ان ادرس صحافة ، ومن ثم أعمل بها اشتغلت في البداية تحقيقات صحفية ، كتبت عن مايحدث فى الدويقة عن طفلة صغيرة تحمل فوق راسها زجاجة ماء ثقيلة وفى طريقها الى بيتها المعلق في حضن الجبل صوان احتفالي لزوم الترحيب بزيارة حرم الرئيس لافتتاح مساكن الدويقة ، المدهش في الموضوع ان تلك المنطقة لن تجد فيها طريق يمر فيها اكثر من اثنين ، مجرد نزولك منطقة الدويقة وعزبة بخيت، ستستلم سلم حجري ومنحنيات طرق تجرك إلى السماء ، ليس بمقدور عجوز مثلي الان ان يفعلها .
كتبت مره اخرى عن سيدة تم حدفها خارج اسوار مستشفي الحسين ، لاستقبال الحالات الطارئة عقب حادث ارهابي ، هالني منظر السيدة الممتلئة، والملقاه على ارضية الطريق وبيدها معلق الجلوكوز وتشتكى من اعراض الكبد وقائمة طويلة من الامراض ، لم اتوقف كثيرا طلبت من الزميل المصور الصحفي أحمد حماد ان يصور المشهد ، وانتظرت حتى يسمح لنا بالدخول للمستشفي لم يحدث بالطبع فقط كان أحمد موسى الى جوار وزير الداخيلة على ما اعتقد ، هو الصحفي الوحيد الذي مر بصحبة طائفة كبيرة من اللواءات ، فهمت فيما بعد ان ثمة صحفي حوادث في الداخلية وصحفي حوادث..
اتذكر اننى كتبت حلقة كاملة عن سكان العشوائيات والبيوت التى تحتضن الجبل في خفة وتقبل السماء ، عن كبال الكهرباء التى تجاور رؤوس هؤلاء البسطاء ، عن المجاري التي تمر في خيوط سيريالية جوار الناس وتزاحمهم في الزحف ، عن المطر في ليال الشتاء الذي يسقط من ثغرات السقوف الفقيرة ويحتضن الناس فى منامهم . عن الأحلام الهاربة من على شفاه طفلة قدر لها ان تولد هنا ،وتصطدم قدميها الحافيتين حصى الشوارع ولكن لاتغيب عنها فطرة الضحك واللعب الخشن .
اتذكر اننى كنت أقرا بنهم مجلة نصف الدنيا وكنت ومازلت مبهور بكتابات الرحيمى ومغامرات أمل سرور وبالطبع كانت تخطفني سيدة المقال الحر سناء البيسي بكتاباتها المفهمة بالونس.
على مدار السنوات الفائتة كنت اهرب من مصيرى إلى مصيري ، أهرب من الصحافة بعجزى وقلة حيلتى الى اشياء اخرى لا احبها ولا اطيقها ، تثقل روحي وتجعلنى هشا واتذكر أننى كنت ومازلت أمتهن الكتابة التى لا أحب سواها امتهن السؤال واحترفة في الوقت الذي تضيع فيه عيناى من التدقيق بالاستمتاع لنص مدهش لفلان الفلاني اجد مايقوضنى ويكتف يدى كسجين لعبث راهن مانعيشة من رخص .
أحب الصحافة لانها في نظري أنبل وأشرف المهن على الأطلاق ، امقت بالطبع الأوغاد الذين يحرقونها كل يوم وليلة .