كلما تقدّمنا في السِّن، تخفّفنا مما درّبونا عليه في الصِّغَر – “الرجل لا يبكي ولا يشكو”، غير أنني أتمنى لو أطيق دفع الساعات ليأتي الغد، وأرتمي في حِجر أمي في الأقصر، وأقول: تُوجِعُني أمُّ كلثوم يا أمي.
تُوجِعُني لأنها تقولُ بالنيابة عني، وأنا لا أعرف عجزاً أنكى من عجز الحنجرة. إنها تقول حيث يجب أن أقول أنا، هي تقول وأنا لا أباريها مستمعاً فكيف ألحق بها قائلاً؟!
تُوجِعُني أم كلثوم يا أمي..
هي تقول.. وأنا أذعن وأقتبس.
وإذا نظر الله لقلبي،
وغفر لي صوتي الرديء..
وإذا نظرت حبيبتي لعيوني،
وغضّت الطرف عن صوتي الرديء..
وإذا نظر جاري العاشق العجوز لشبابه فيَّ،
وتغافل عن صوتي الرديء..
فإن المرأة نفسها أربكتني… لِمَن في الثلاثة أغنّي!
تُوجِعُني أم كلثوم يا أمي..
أنا الرجل أغار؟!
أغار من الرِّقة في الحزم،
ومن السطوة في الدلال،
أغار من السيادة التي تبسطها على النفوس.
من يُصغَى له من الخليج للمحيط دون رنّة إبرة غيرها؟
أغار على قسطٍ من المهابة نالته المرأة من أيسر الأبواب وأكثرها غرابة!
تُوجِعُني أم كلثوم يا أمي..
تُوجِعُني شاعراً..
كيف لم تحظَ كلماتي بالعدد الهائل من التآويل الذي تحظى به بحّةٌ واحدةٌ من حنجرة تلك السيدة..!
بحّةٌ واحدةٌ تعبث في الدقيقة ذاتها
بفلّاحٍ يحصد على ضوء القمر في قريتنا
وعامل ورديةٍ يصبّ الشاي في بعلبك
وملِكٍ على عرشه ينصب الفِخاخ للمعارضة في مراكش!
تُوجِعُني أم كلثوم يا أمي..
تُوجِعُني بَشَريّتُها.. فلو سمحتْ لنا أن نسلِّم بكونها ظاهرة فوق بشرية، لارتحنا وانتهى الأمر.
غير أنها لا تفتأ بعد نصف قرن من الرحيل تستفزّ المُطفَئين ليُثيروا الغبار حولها، فتحتجب إلا عمّن كانوا أحق بها وأهلها، وكلما استوقفتنا -فيها- بشريّتُها ازددنا ارتباكاً وفتنة!
إذا كانت بشراً، فكيف لم يُخلق مثلها في البلاد؟
وإذا كانت مطراً، فكيف لا يقترن هطول فيوضاتها بموسم؟ وإذا كانت مَلَكاً حانياً، فكيف يصير لها صرعى وهُلّاك؟!
تُوجِعُني أم كلثوم يا أمي
يُوجِعُني الجمالُ بلا سلالة..