يمكننا أن نقول إن الفلكلور ما هو إلا موروث تم حفظه لنا، ونحن الآن بين محب ومتجاهل له وجاهل به، مع انتشار الكثير من الظواهر التي تدل على انحدار الذوق الفني -إن أمعنت النظر- ستجد أننا لا نزال أمام ذوق رفيع، وأننا نصنع ثقافة ممتدة من الثقافة الشفهية التي حُفظت لنا.
في فن الكف الصعيدي يظهر لنا جانبان، الفنان والكفّافة، فيظهر مجموعة من الرجال “الكفافة”، يلقون أبياتا من الشعر وهم يؤدون رقصة يمينا ويسارا، فيقوم الفنان بالارتجال على هذه الأبيات كنوع من التحدي له، وموضوع الأبيات من عمق الحياة اليومية والثقافة الشفهية، وربما يحمل الطرفة المحببة شعريا، ولكن الفنان هو من يحتل الواجهة للفن.
وإذا نقلنا الضوء إلى الجانب الآخر سنجد من الكفافة شبابًا فنانين، نستطيع أن ندرك الشعر في أبياتهم، نعم هو الذي تعلمناه في دواوين العرب وتاريخهم الشعري على مداره الطويل، نعم إنه هو، هكذا أراه شاعرا بدويا في عكاظ، ولكنه بلهجة من لهجات الصعيد، أنيقة فصيحة تعمرها البلاغة وتطوف في أرجائها.
أقلب في صفحات الفيس بوك وجدت فيديو لليلة كف يقف فيها شاب يقول:
صُحبتي المنسية آتو تاني ليه لي من باع اشري
كله ضامن سيئاته عندي في الحسنات بعَشْرِ
بنوي للكان نقطة واغيَضْ إني أكون كاليمِّ وافيَضْ
واسمع إبراهيم الابيَضْ بيقول: “بِعْتَ بكام عَشْري”
ثم يغني الشاب هذه الأبيات بصوت عذب، توقفت أمام الأبيات كثيرا، إنها شعرية خالصة، ومن ثم بحثت عن العديد من فيديوهات هذا الشاعر، لأعرف أن أبا عبيدة الشهير “بالمتعدد” أحد كفافة الصعيد المعروفين الذين يتمتعون بموهبة فطرية، ولا تخفى الثقافة في طيات الأبيات، فإن أصالة الحكمة في الشطر الأول “من باع اشري”، ومن ثَمَّ معرفة تراثية دينية في البيت الثاني، وإلى أن يأتي الشطر الثالث وهو ما أحبه جدا هنا “بنوي للكان نقطة واغيض إني أكون كاليم وافيض” فكلمة “أغيض” هنا أفعل تفضيل من “غاض” وهي يقول أريد أن أكون كاليم الفائض للذي كان أقل من نقطة ماء، ياله من خُلُقٍ شاعرٍ، ومن ثم يأتي الشطر الأخير حامل ثقافتنا الحالية وطرفته كانت تتويجا لهذه الأبيات التي تحتفي بالبلاغة العربية من كافة أطرافها.
“المتعدد” ليس اسما من فراغ، “والطريف أن المتعدد عندنا في الصعيد اسم لأحد الأسلحة المعروفة” ليس هذا المقصود به بالطبع، ولكن التميز والتنوع يملآن أبياته، في الفيديوهات الأخرى التي رأيتها والتي تنتشر على صفحات الفيس بوك ووسائل التواصل، إذ يقول في إحدى خاناته:
ليه مَحَنِّشْ قلب زاره .. مَبْلي جا بعد انقطاعنا
اللي فات وقَفَل بازاره .. قلنا لا ويا ريته طاعنا
الله يرحم عز أبونا
فاتنا لأيام عذبونا
شاف حياته مع الزبونة .. اللي جات في السن طاعنة
الحياة متجسدة هنا في الشعر، لا يقولون الشعر فقط بل إنه من ممارساتهم اليومية، وإن استحضار الحياة الاعتيادة في أبيات تُروى لهو الحفظ الحقيقي لأن يكون لنا تراث شفهي فيما بعد، حفظا لأيامنا التي قد يغفل التدوين عنها.
والحب الذي يملأ حياة الشعراء، نجده رقيقا هامسا شعريا في أبيات “المتعدد” إذ يقول في إحدى لياليه:
نُص كلمة معاي بتابا .. وقفة حتى ولو قِلَيلَة
اللي فيها أنا والكتابة .. قصدنا نهارا وليلا
اللي فيها القول فَنانا .. منه بقا ضيق فِنانا
قول ما قاله الجخ في نانا .. ومثله ما جاب قيس في ليلى
رحلتنا مع “المتعدد” قد تطول، ولكن الشعر يظهر نفسه أكثر كلما تعمقنا فيه، ولا يمكن إلا أن ننتظر منه الكثير والكثير في حياته الفنية الذاخرة.